127
۳ - النوبة الثانیة
قوله تعالى: فَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ، القربى القرابة، و ابن السبیل الضّیف، یقال حق الاقرباء منسوخ بآیات المواریث و البرّ الى المسکین و ابن السبیل محکم.
عن ابى شریح الکعبى انّ رسول اللَّه (ص) قال: من کان یؤمن باللَّه و الیوم الآخر فلیکرم ضیفه جائزنا یوم و لیلة و الضیافة ثلاثة ایام فما بعد ذلک فهو صدقة. و لا یحل له ان یثوى عنده حتى یخرجه، و قال: «ان نزلتم بقوم فامروا لکم بما ینبغى للضّیف فاقبلوا، فان لم یفعلوا فخذوا منهم حق الضیف الذى ینبغى له»، و قیل الخطاب للنبى (ص): و ذا القربى بنو هاشم و بنو المطّلب یعطون حقوقهم من الغنیمة و الفىء و قیل: فَآتِ ذَا الْقُرْبى جواب و جزاء لما قبله، اى سعة الرزق و ضیقه من اللَّه، فاعط من مالک ان آمنت بذلک لانّ من علم ان غناه و فقره من اللَّه لم یخف باداء الحقوق الفقر. و دخول الفاء لهذا المعنى. ثم قال: ذلِکَ اى اخراج الحقوق من الاموال «خیر» لمن اخرجها مخلصا للَّه غیر قاصد به الرّیاء و السمعة، وَ أُولئِکَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ فى الآخرة. و المعنى له فى الدنیا خیر و هو البرکة فى ماله لانّ اخراج الزکاة یزید فى المال و فى الآخرة یصیر بطاعة ربّه فى اخراج ماله الى زکاته و غیر ذلک من المفلحین الفائزین بالجنّة.
وَ ما آتَیْتُمْ مِنْ رِباً معنى الرّبا الزیادة و منه یقال للتلّ و البقاع رابیة.
و الربوا قسمان: احدهما ما یزداد فى البیع و هو حرام محرّم نطق بتغلیظ تحریمه القرآن و السّنّة و سبق شرحه فى سورة البقرة. و على قول السدى نزلت هذه الایة فى ثقیف لانّهم کانوا یعطون الربوا اعنى هذا القسم المحرّم، فذلک فَلا یَرْبُوا عِنْدَ اللَّهِ اى فى حکمه بل یمحقه و یذهب برکته کقوله: یَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا و الثانى ان یعطى الرجل العطیّة و یهدى الهدیّة لیثاب اکثر منها، فهذا ربوا حلال جائز و لکن لا یثاب علیه فى القیامة و هو معنى قوله: فَلا یَرْبُوا عِنْدَ اللَّهِ لانّه لم یرد به وجه اللَّه و هذا کان حراما على النبى (ص) لقوله تعالى: وَ لا تَمْنُنْ تَسْتَکْثِرُ اى لا تعط و تطلب اکثر ممّا اعطیت و هو المراد بالایة على قول اکثر المفسّرین مثل سعید بن جبیر و مجاهد و قتاده و طاوس و الضحاک. قرأ ابن کثیر وَ ما آتَیْتُمْ مِنْ رِباً مقصورا، اى فعلتم. و قرأ الآخرون آتَیْتُمْ ممدودا اى اعطیتم لتربوا. قرأ نافع و یعقوب بضمّ التاء و سکون الواو على الخطاب، اى لتربوا انتم و تصیروا ذوى زیادة من اموال الناس و قرأ الآخرون لِیَرْبُوَا بالیاء و فتحها و نصب الواو و جعلوا الفعل للرّبوا لقوله: فَلا یَرْبُوا عِنْدَ اللَّهِ وَ ما آتَیْتُمْ مِنْ زَکاةٍ. قیل هى الزکاة المفروضة، و قال ابن عباس هى الصدقة سمّیت زکاة لانها تزکو و تنمو تُرِیدُونَ وَجْهَ اللَّهِ ثوابه و رضاه فَأُولئِکَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ یضاعف لهم الثّواب فیعطون بالحسنة عشرا مثالها و یضاعف اللَّه لمن یشاء فالمضعف ذو الاضعاف من الحسنات کما یقال رجل مقو، اى صاحب قوّة و موسر، اى صاحب یسار. و انّما قال: فَأُولئِکَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ فعدل على الخطاب الى الاخبار ایماء الى انه لم یخصّ به المخاطبون بل هو عامّ فى جمیع المکلّفین.
اللَّهُ الَّذِی خَلَقَکُمْ اوجدکم من العدم و لم تکونوا شیئا ثُمَّ رَزَقَکُمْ فى حیاتکم الاموال و النعم ثُمَّ یُمِیتُکُمْ عند انقضاء آجالکم ثُمَّ یُحْیِیکُمْ للثواب و العقاب هَلْ مِنْ شُرَکائِکُمْ اللّاتى زعمتم انّها شرکاء اللَّه مَنْ یَفْعَلُ مِنْ ذلِکُمْ الخلق و الرزق و الاماتة و الاحیاء مِنْ شَیْءٍ یعنى شیئا و من صلة سُبْحانَهُ وَ تَعالى عَمَّا یفترى المفترون و یشرک به هؤلاء المشرکون.
ظَهَرَ الْفَسادُ فِی الْبَرِّ وَ الْبَحْرِ الظهور على اربعة اوجه: وجود من عدم، و خروج من وعاء، و ظهور بالدلیل، و ظهور بالغلبة و الاستیلاء. و معنى الایة: وجود هذا البلاء و الجدب و القحط الّذى یعده الناس فسادا فى البرّ و البحر انّما هو بذنوب هذا الخلق و بما جنوا على انفسهم من عظائم الذنوب و اراد بالبرّ البوادى و المفاوز و بالبحر المدائن و القرى الّتى على المیاه الجاریة. قال الزجاج: کل بلد ذى ماء جار فهو بحر و العرب تسمّى القریة و المدینة بحرة. و فساد البرّ الجدب و فساد المدینة القحط. و قیل المراد بالبرّ و البحر جمیع الارض کقول القائل: هو معروف فى البرّ و البحر، یعنى هو معروف فى الدنیا. و قیل فساد البرّ قطع الطریق و فساد البحر غرق السفن. و قال عکرمة: البرّ ظهر الارض، الامصار و غیرها. و البحر هو البحر المعروف. و قلّة المطر کما یؤثر فى البر یؤثر فى البحر فتخلو أجواف الاصداف لانّ الصدف اذا جاء المطر یرتفع الى وجه البحر و یفتح فاه فما یقع فى فیه من المطر صار لؤلؤا. و قال ابن عباس و مجاهد: «الْفَسادُ فِی الْبَرِّ» قتل احدا بنى آدم اخاه و فى البحر غصب الملک الجائر السّفینة. قال الضحاک: کانت الارض خضرة مونقة لا یأتى ابن آدم شجرة الّا وجد علیها ثمرة و کان ماء البحر عذبا و کان لا یقصد الاسد البقر و الغنم، فلمّا قتل قابیل هابیل اقشعرت الارض و شاکت الاشجار و صار ماء البحر ملحا زعاقا و قصد الحیوان بعضها بعضا بِما کَسَبَتْ أَیْدِی النَّاسِ ذکر الایدى هاهنا و فى قوله بما قدّمت یداک کلام عربى یراد به اکتساب الذنب و ان لم یکن للید فیه سعى و لا اثر. و فى الخبر: هذه یداى و ما جنیت بهما على نفسى، لِیُذِیقَهُمْ بَعْضَ الَّذِی عَمِلُوا اى لیذیقهم بهذه المحن جزاء بعض ما عملوا من الذنوب و انّما قال بَعْضَ الَّذِی عَمِلُوا لانّه لو جزاهم بکلّ ما عملوا لاهلکهم جمیعا و استأصلهم لکنّه یعفو عن کثیر تفضّلا و یجازى بالبعض محنة و تنبّها کما قال: وَ لَوْ یُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ ما تَرَکَ عَلَیْها مِنْ دَابَّةٍ، لَعَلَّهُمْ یَرْجِعُونَ لکى یرجعوا عن کفرهم الى الایمان و عن المعصیة الى الطاعة.
«قُلْ» یا محمد لمشرکى قریش سِیرُوا فِی الْأَرْضِ فَانْظُرُوا فى دیار المهلکین من الامم المنذرین و فیما صارت الیه عواقب امورهم لاجل انّهم کانوا یشرکون باللّه، فاعتبروا بها و علموا انّ عواقب امورکم صائرة الى مثل ذلک ان اقمتم على کفرکم و شرککم.
فَأَقِمْ وَجْهَکَ لِلدِّینِ الْقَیِّمِ اى اقم قصدک و اجعله جهتک و استقم علیه و اعمل به. و الدّین القیّم المستقیم و هو دین الاسلام مِنْ قَبْلِ أَنْ یَأْتِیَ یَوْمٌ یعنى یوم الموت. و قیل یوم القیامة لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ، اى اذا جاء اللَّه به لم یردّه و قیل فیه تقدیم و تأخیر، تقدیره یوم من اللَّه، اى یوم من ایام اللَّه، لا مَرَدَّ لمجیئه. یَوْمَئِذٍ یَصَّدَّعُونَ، اى یتفرقون فَرِیقٌ فِی الْجَنَّةِ وَ فَرِیقٌ فِی السَّعِیرِ اصله یتصدّعون، و الصّدع الشقّ و الصدیع الصبح لانّه ینشق من اللیل یقال صدّعت غنمى صدعتین و کل فرقة صدعة.
مَنْ کَفَرَ فَعَلَیْهِ کُفْرُهُ. اى و بال کفره وَ مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِأَنْفُسِهِمْ یَمْهَدُونَ، اى یوطّئون لانفسهم منازلهم فى الآخرة لیسلموا من عقاب ربّهم. و قیل یسوّون المضاجع فى القبور على ما یؤمنون به من عذاب اللَّه فیها. و اصل المهد اصلاح المضجع للصّبىّ ثم استعیر لغیره.
لِیَجْزِیَ الَّذِینَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْ فَضْلِهِ هذه الایة منتظمة بقوله: یَوْمَئِذٍ یَصَّدَّعُونَ و المعنى انّ اهل الموقف یوم القیامة بعد محاسبة اللَّه ایّاهم یفرّقهم فرقتین لکى یجزى الذین آمنوا به فى الدنیا و عملوا بطاعته ما یجزیهم بفضله و هذا دلیل على ان جزاء الاعمال الصالحة فضل من اللَّه تعالى و هذا من الضّرب الذى یذکر فیه احد طرفى الشّىء و یحذف الطرف الآخر اکتفاء بدلالة المذکور على المحذوف. و ذلک انّه ذکر انّه یجزى المؤمنین و اراد و یعاقب الکافرین فحذف ذکرهم لدلالة جزاء المؤمنین على عقاب الکافرین إِنَّهُ لا یُحِبُّ الْکافِرِینَ فیشوبهم بالمؤمنین بل یفرق بینهم، وَ مِنْ آیاتِهِ، اى و من آیات قدرته أَنْ یُرْسِلَ الرِّیاحَ یعنى الجنائب مُبَشِّراتٍ، بالمطر. و قیل تبشّر بصحة الأبدان و خصب الزمان و کلّ ما فى القرآن من الرّیاح بلفظ الجمع فهو الرحمة. و قیل الرّیح جسم رقیق یجرى فى الجوّ. و قیل هواء متحرّک، و قیل تموج الهواء بتأثیر الکواکب، و هذا من کلام الاوائل و الصحیح ما ورد به الخبر عن النبىّ (ص): الریح من روح اللَّه عز و جل تأتى بالرحمة و تأتى بالعذاب فلا تسبوها و سلوا اللَّه عز و جل خیرها و استعیذوا باللَّه من شرها.
و قیل مُبَشِّراتٍ یستبشر بها الخلق لانّهم یرجون معها مجىء المطر. و قیل مهیّجات للسّحاب ملقّحات للاشجار مسیّرات للسفن. وَ لِیُذِیقَکُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ عطف على مُبَشِّراتٍ یعنى لیبشّرکم و لیذیقکم من رحمته الرحمة، هاهنا المطر. وَ لِتَجْرِیَ الْفُلْکُ بِأَمْرِهِ منسوق على قوله: یُرْسِلَ الرِّیاحَ فالسفن تجرى بالرّیاح بامر اللَّه فهى جاریة بامره و لتبتغوا من فضله منسوق على قوله: وَ لِیُذِیقَکُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ. و قیل: لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ. اى لتطلبوا الریح من التجارة فى البحر. و قیل فى الذهاب فى البحر الى الجهاد وَ لَعَلَّکُمْ تَشْکُرُونَ هذا النعم.
لَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِکَ رُسُلًا إِلى قَوْمِهِمْ فَجاؤُهُمْ بِالْبَیِّناتِ، الدلالات الواضحات على صدقهم، فکذّبوهم کما کذّبوک،انْتَقَمْنا مِنَ الَّذِینَ أَجْرَمُوا اى انتصرنا من الذین آتوا بالجرم بتکذیب الانبیاء کانَ حَقًّا عَلَیْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِینَ، هذا کما یقال علىّ فصل هذا الامر، اى انا افعله. و نظیره: إِنَّ عَلَیْنا لَلْهُدى إِنَّ عَلَیْنا جَمْعَهُ وَ قُرْآنَهُ ثُمَّ إِنَّ عَلَیْنا حِسابَهُمْ ففى هذا تبشیر النبى (ص) بالظفر فى العاقبة و النصر على الاعداء عن ابى الدرداء قال: سمعت رسول اللَّه (ص) یقول: «ما من مسلم یرد عن عرض اخیه الّا کان حقا على اللَّه ان یردّ عنه نار جهنم یوم القیامة»، ثم تلا هذه الایة: کانَ حَقًّا عَلَیْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِینَ.
اللَّهُ الَّذِی یُرْسِلُ الرِّیاحَ قرأ ابن کثیر و حمزة و الکسائى: الرّیح فتثیر و قرأ الآخرون الریاح بالجمع فَتُثِیرُ اى تهیج سَحاباً جمع سحابة، یعنى فتهیج الریح السحاب من حیث اراد اللَّه «فَیَبْسُطُهُ»، اى یبسط اللَّه السحاب فى الهواء «کَیْفَ یَشاءُ» مسیرة یوم او یومین او اکثر على ما یشاء من ناحیة الجنوب او ناحیة الشمال او الدّبور او الصباء، وَ یَجْعَلُهُ کِسَفاً قطعا یرکب بعضه بعضا قرأ ابن عامر کِسَفاً ساکنة السین فَتَرَى الْوَدْقَ اى المطر یَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ وسطه. و قیل خلال الشیء مفاتحه المؤدیة الى داخله، یعنى فترى قطر الامطار تخرج من فرج ذلک السحاب. و قیل السحاب کالغربال و لو لا ذلک لافسد المطر الارض.
روى عن وهب بن منبه قال: انّ الارض شکت الى اللَّه عزّ و جلّ ایّام الطوفان لانّ اللَّه عزّ و جلّ ارسل الماء بغیر وزن و لا کیل فخرج الماء غضبا للَّه عز و جل فخدّش الارض و خدّدها، فقالت یا ربّ انّ الماء خدّدنى و خدّشنى، فقال اللَّه عزّ و جلّ فیما بلغنى و اللَّه اعلم انّى ساجعل للماء غربالا لا یخدّدک و لا یخدّشک. فجعل السحاب غربال المطر فَإِذا أَصابَ بِهِ، اى بالمطر مَنْ یَشاءُ مِنْ عِبادِهِ إِذا هُمْ یَسْتَبْشِرُونَ بمجىء الخصب و زوال القحط. وَ إِنْ کانُوا مِنْ قَبْلِ یعنى و قد کانوا من قبل نزول المطر عَلَیْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِینَ یائسین قانطین من نزول القطر، فلما انعمنا علیهم بذلک اقتصروا على الفرح و لم یشکروا. و قیل وَ إِنْ کانُوا مِنْ قَبْلِ یعنى و ما کانوا من قبله الّا مبلسین. و اعاد قوله من قبله تاکیدا، و قیل الاوّل یرجع الى انزال المطر، و الثّانی الى انشاء السّحاب. و قیل الثانى یرجع الى الاستبشار، و تقدیره من قبل الانزال من قبل الاستبشار، لانّه قرنه بالابلاس و لان منّ علیهم بالمطر و بالاستبشار و اللَّه اعلم.
فَانْظُرْ إِلى آثارِ رَحْمَتِ اللَّهِ هکذا قرأ اهل الحجاز و البصرة و ابو بکر، و قرأ الآخرون إِلى آثارِ رَحْمَتِ اللَّهِ على الجمع و اراد برحمة اللَّه المطر لانّه انزله برحمته على خلقه، و الخطاب و ان توجه نحو النبى فالمراد به جمیع المکلفین و المعنى فانظر الى حسن تأثیره فى الارض کیف یخصب الارض بعد جدبها و قحطها، اى من فعل هذا هو الذى یحیى الموتى یوم القیامة، وَ هُوَ عَلى کُلِّ شَیْءٍ قَدِیرٌ.
وَ لَئِنْ أَرْسَلْنا رِیحاً باردة مضرّة فافسدت الزّرع فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا اى رأوا الزرع مصفرّا بعد الخضرة لَظَلُّوا صاروا مِنْ بَعْدِهِ اى من بعد اصفرار الزرع یَکْفُرُونَ یجحدون ما سلف من النعمة. و المعنى انّهم لا ثقة لهم بربّهم فان اصابهم خیر لم یشکروا و ان نالهم او رأى شىء یکرهونه، جزعوا و کفروا.
فَإِنَّکَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى، اى من کان کما وصفنا فلا تطمع فى قبوله منک لانّه فى التشبیه کالمیّت و الاصم الّذى لا سبیل له الى السمع. و هم الّذین علم اللَّه قبل خلقهم انّهم لا یؤمنون به و لا برسله وَ لا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ قرأ ابن کثیر لا یسمع بالیاء و فتحها، الصّم رفع، و انّما قال: إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِینَ و الاصمّ لا یسمع مقبلا و لا مدبرا لانّه حالة الاقبال ربّما یفهم بالرمز و الاشارة بتحریک الشفاه و ان لم یسمع باذنه، و اذا ولّى فلا یسمع و لا یفهم الاشارة و لا سبیل الى افهامه. و فى الآیة دلیل ان الاحیاء قد تسمّى امواتا اذا لم یکن لهم منفعة الحیاة فانّ اللَّه عزّ و جل سمّاهم موتى و کانوا احیاء على الحقیقة لکنّهم لما لم یکن لهم منفعة الحیاة سمّاهم موتى، و قال امیر المؤمنین على (ع): مات خزّان الاموال و هم احیاء و العلماء باقون ما بقى الدهر، اجسادهم مفقودة و آثارهم بین الورى موجودة».
وَ ما أَنْتَ بِهادِی الْعُمْیِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ قرأ حمزة تهدى العمى عن ضلالتهم یعنى و لست بهادى الکفّار الذین قد عمى قلوبهم عن الحق و لا تقدر على اسماع الایمان و الهدى احدا الّا من قضى اللَّه فى سابق علمه و نافذ حکمه، انّه یؤمن باللّه و آیاته اذا تلیت علیه و یهتدى بهداه اذا هدى الیه. نظیره قوله: فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَما أَنْتَ بِمَلُومٍ و ذکّر فانّ الذکرى تنفع المؤمنین، فَهُمْ مُسْلِمُونَ خاضعون للَّه بالطّاعة.
اللَّهُ الَّذِی خَلَقَکُمْ مِنْ ضَعْفٍ بفتح الضاد ثلثهن قرأ حمزة و ابو بکر «من ضعف» یعنى من نطفة، یرید من ذى ضعف، اى من ماء ذى ضعف، کما قال: أَ لَمْ نَخْلُقْکُمْ مِنْ ماءٍ مَهِینٍ. ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً اى من بعد ضعف الطفولیة شبابا، و هو وقت القوة ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً هرما وَ شَیْبَةً یَخْلُقُ ما یَشاءُ من الضعف و القوّة و الشباب و الشیبة وَ هُوَ الْعَلِیمُ بتدبیر خلقه الْقَدِیرُ على ما یشاء.
روى انّ ابرهیم (ع) لمّا بدأ الشیب فى رأسه و عارضیه قال: یا رب ما هذا؟
فقال: وقار الشیب، فقال: اللّهم زدنى وقارا. و فى الخبر عن النبى (ص): من اجلال اللَّه اکرام ذى الشیبة المسلم و حامل القرآن و قال (ص) ثلاثة لا یستخف بهم الّا منافق: امام مقسط و ذو شیب فى الاسلام و ذو علم.
و قال (ص): من شاب شیبة فى الاسلام کانت له نورا یوم القیامة ما لم یخضبها او ینتفها.
و عن بعضهم قال: رأیت یحیى بن اکثم القاضى فى المنام فقلت له ما فعل اللَّه بک؟ فقال غفر لى، الّا انّه وبّخنی، ثمّ قال: یا یحیى خلّطت علىّ فى دار الدنیا، فقلت اى رب، اتکلت على
حدیث حدثنى ابو معاویة الضریر عن الاعمش عن ابى صالح عن ابى هریرة قال: قال رسول اللَّه (ص): انّک قلت انّى لاستحیى ان اعذّب ذا شیبة بالنّار، فقال قد عفوت عنک یا یحیى و صدق نبیّى الّا انّک خلطت علىّ فى دار الدنیا.
و عن واثلة بن الاسقع قال قال رسول اللَّه (ص): «خیر شبابکم من تشبه بکهولکم و خیر کهولکم من تشبّه بشبابکم».
و قال (ص): «اوصیکم بالشباب خیرا ثلاثا، فانّهم: ارقّ افئدة الا و انّ اللَّه ارسلنى شاهدا و مبشّرا و نذیرا، فخالصنى الشبّان و خالفنى الشیوخ».
وَ یَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ یُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ یحلف الکافرون ما لَبِثُوا غَیْرَ ساعَةٍ فى قبورهم. و قیل ما لبثوا فى الدنیا الّا ساعة واحدة، و ذلک لاستقلالهم مدة الدنیا و مدة البرزخ فى جنب ما استقبلهم من الابد الذى لا انقطاع له، نظیره قوله تعالى: کَأَنَّهُمْ یَوْمَ یَرَوْنَ ما یُوعَدُونَ لَمْ یَلْبَثُوا إِلَّا ساعَةً مِنْ نَهارٍ. کَذلِکَ کانُوا یُؤْفَکُونَ اى یصرفون عن الصدق فیأخذون فى الافک. و ذلک انّهم کانوا ینکرون البعث و النشور و یحلفون على بطلان ذلک کما اخبر سبحانه فى قوله: وَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَیْمانِهِمْ لا یَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ یَمُوتُ، المعنى انّهم یذهبون عن الحق فى ذلک الیوم کما کانوا یذهبون عن الحق فى ذلک الیوم کما کانوا یذهبون عنه فى الدّنیا. و قیل اراد اللَّه ان یفضحهم فحلفوا على شىء یتبیّن لاهل الجمع انّهم کاذبون فیه و کان ذلک بقضاء اللَّه و قدره، بدلیل قوله: یُؤْفَکُونَ اى یصرفون عن الحق ثمّ ذکر انکار المؤمنین علیهم کذبهم، فقال: وَ قالَ الَّذِینَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَ الْإِیمانَ و هم الانبیاء و علماء المؤمنین و قیل الملائکة مجیبین لهم توبیخا، لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِی کِتابِ اللَّهِ اى فى حکم اللَّه و علمه المثبت فى اللّوح المحفوظ. و قیل فیما کتب اللَّه لکم فى سابق علمه، و قیل فیه تقدیم و تأخیر، تقدیره: و قال الذین اوتوا العلم فى کتاب اللَّه و الایمان لقد لبثتم، إِلى یَوْمِ الْبَعْثِ فَهذا یَوْمُ الْبَعْثِ الذى کنتم تنکرونه فى الدنیا، وَ لکِنَّکُمْ کُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ ذلک فى الدّنیا فحلفتم على جهل و لا ینفعکم العلم به الآن بدلیل قوله: فَیَوْمَئِذٍ لا یَنْفَعُ الَّذِینَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ اى عذرهم، اخذ من المعذار، و هو الستر و قولهم من عذیرى معناه من الذى یقوم تبینن عذرى وَ لا هُمْ یُسْتَعْتَبُونَ، اى لا یطلب منهم الاعتاب. و الاعتاب الخروج ممّا یوجب العتب یرید انّه لا یقبل منهم توبة و یسألون الرجعة الى الدّنیا لاستدراک الفائت فلا یجابون. قرأ اهل الکوفة: لا یَنْفَعُ بالیاء هاهنا، و فى حم المؤمن و تابعهم نافع فى حم المؤمن و قرأ الباقون بالتّاء فیهما.
وَ لَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِی هذَا الْقُرْآنِ مِنْ کُلِّ مَثَلٍ، یعنى بیّنّا لهم فیه من کل شبه و من کلّ نوع ممّا یحتاجون الیه من امر الدّین و الدّنیا یهتدى به المتفکّر و یعتبر به الناظر المتدبّر، وَ لَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآیَةٍ اخرى، مع هذا القرآن على وضوحه و اصابة امثاله و بیان حججه، لَیَقُولَنَّ الَّذِینَ کَفَرُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُبْطِلُونَ ما انتم الّا على باطل، یعنى: انّهم لا یهتدون بتلک الآیة ایضا و لم یعرفوا بها صحة دینک و حقیقة امرک کما لم یهتدوا بهذا القرآن و لم یعلموا به شیئا من ذلک.
کَذلِکَ یَطْبَعُ اللَّهُ عَلى قُلُوبِ الَّذِینَ لا یَعْلَمُونَ اى کما اخبرناک عن هؤلاء الکفّار کذلک سبیل من یطبع اللَّه على قلوبهم، اى یختم علیها بکفرهم فلا یعلمون حقیقة الدّین کما لم یعلم هؤلاء فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ اى اصبر على اذى المشرکین ایّاک و اثبت على دینک و دم على تبلیغ رسالات ربّک إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ من النصر على اعدائک و اظهار دینک على سائر الادیان. وَ لا یَسْتَخِفَّنَّکَ، اى لا یستحملنّک، معناه لا یحملنّک، الَّذِینَ لا یُوقِنُونَ على الجهل و اتباعهم فى الغىّ. و قیل لا یستخفنّ رأیک و حلمک الّذین لا یؤمنون بالبعث و الحساب. و قیل لا یتداخلنک خفة و عجلة لشدّة غضبک على الکفّار فتفعل بخلاف ما امرک اللَّه به من الصبر فلیس لوعده خلف و لا تبدیل.
روى عن على بن ربیعة قال: نادى رجل من الخوارج علیّا (ع) و هو فى صلاة الفجر فقال: و لقد اوحى الیک و الى الذین من قبلک: لَئِنْ أَشْرَکْتَ لَیَحْبَطَنَّ عَمَلُکَ وَ لَتَکُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِینَ فاجابه علىّ و هو فى الصلاة: فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَ لا یَسْتَخِفَّنَّکَ الَّذِینَ لا یُوقِنُونَ الیقین اخذ من الیقین و هو الماء الصّافى.